بسم الله الرحمن الرحيم

لماذا الرسول الأعظم خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد المصطفى’ عرّف الزهراء فاطمة‘ لأصحابه ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة؟

ورد في بحار الأنوار بإسناده قال خرج النبي’ وهو آخذ بيد فاطمة‘ فقال’: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمّد، وهي بضعة مني، وهي قلبي وروحي التي بين جنبيّ، فمن أذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله .

إنّ المعرفة أخصّ من العلم كما هي أُسّ الفهم، فإذا كان العلم إنطباع أو حصول صورة الشيء في الذّهن، ويصدق مع الكليات التي لا يمتنع فرض صدقها على الكثيريين، ومحطّها الذهن، فإنّ المعرفة أخصّ منه فيقصد منها العلم بالجزئيات وبالحقائق كما هي في الواقع وفي نفس الأمر.

والمعرفة من المفهوم الكلّي المشكك ذات المراتب الطوليّة والعرضيّة كالنور الحسّي، فإذا كان أدناه رتبة نور الشمعة مثلاً فاعلاها نور الشمس، وبينهما إلى ما شاء الله من المراتب العمودية والأفقيّة.

كما تنقسم المعرفة إلى جلالية من ورائها الوقوف على هيبة وجلال متعلّق وموضوع المعرفة، كرؤية الجبل الشاهق من بعيد، والمعرفة الجمالية، مما يكون من ورائها الإنس والموّدة كالإقتراب من الجبل، والمعرفة الكمالية، عندما يجمع بين المؤمنين بجمع سالم لا بالجمع المكسر بالإفراط والتفريط كمن يقف على قمة الجبل ويرى جماله وجلاله على حدّ سواء.

ومعرفة مولاتنا فاطمة الزهراء تارة بجلالتها، وأخرى بجمالها، وثالثة بكمالها كمعرفة الله ورسوله’.

بلغ العلى بكماله

كشف الدّجى بجماله

حسنت جميع خصّاله

صلّوا عليه وآله

فمن الناس من يعرفها معرفة فرشية أرضية كمن يعرفها في حسبها ونسبها، ومنهم من يعرفها بمعرفة عرشية سمائيّة في مناقبها وفضائلها.

وجه التسمية بفاطمة:

ورد في جملة من الروايات في وجه تسميتها بفاطمة:

أولاً: سُميّت فاطمة، فإنّ الله إشتق لها إسماً من أسمائه الحسنى، فهو الفاطر وسمّاها فاطمةً إشتقاقاً من إسمه، كما في دعاء توبة آدم× (يا حميد بحق محمد ويا عالي بحق علي ويا فاطر بحق فاطمة ويا محُسن بحق الحسن ويا قديم الإحسان بحق الحسين إلّا ثبت عليّ، فتاب الله عليه.

وثانياً: عن رسول الله’: إنّما سميت فاطمة لأنّ الله فطمها ومحبيّها عن النار .

وثالثاً: سميت فاطمة لأنّ الخلق فطموا عن معرفتها، أي إنقطعوا عن كمال معرفتها، فإنّ الفطم لغةً بمعنى القطع كإنفطام الولد عن ثدي أمّه.

بحار الأنوار بإسناده قال: قال أبو عبد الله× في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾: اللّيلة: (فاطمة)، والقدر (الله) فمن عرف فاطمة حق معرفتها، فقد أدرك ليلة القدر، وإنّما سميت فاطمة لأنّ الخلق فطموا عن معرفتها .

والمقصود من هذه العجالة أن نقف وقفة عرشية مع الحديث النّبوي الأول لما فيه من دلالات وأسرار خفيّة والله المستعان وإعلم أنّ أمر محمد وآل محمد^ أولاً: من السّر وسرّ السّر، وثانياً من الصعب المستصعب.

بيان ذلك: أمّا السّر:

في البحار عن بصائر الدرجات بإسناده عن الإمام الصادق× قال: إنّ أمرنا سرّ في سرّ، وسرّ مستقر، وسر لا يفيده إلا سرّ، وسرّ على سرّ، وسرّ مقنع بسر .

فهذه مراتب خمس في سِريّة أمرٍ أهل البيت^ وتعلَّقهم بعالم الغيب والملكوت.

وأمّا الصعب المستصعب:فهذا ما ورد في جملة من الروايات المستفيضة.

قال الإمام الصادق×: أمرنا صعب مستصعب لا يتحملّه إلّا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن إمتحن الهل قلبه بالإيمان.

وقفة علم مع الحديث الشريف:

وأمّا الوارد في حديث المعرفة الفاطميّة من المعاني والمفاهيم الخفيّة والجليّة، فاليكم جملة من فقه الحديث وسرّه:

أولاً: إخراج النبي بنته فاطمة عليها السلام وتعريفها للناس بهذه الصيغة (من عرفها فقد عرفها) ممّا يدل على أنّ معرفتها من المطلوب الإلهي والنبوي، ومن ثم علي معرفتها دارت القرون الأولى، ممّا يعني أن الأنبياء من آدم وما دونه أُمروا بمعرفتها ومعرفة فضلها ومقامها ومناقبها، فكانوا يوصلون أممهم بحبّها ومعرفتها، ويأمرونهم بالتّوسل بها، كما في قبول توبة آدم وتوسّله بأصحاب الكساء الخمس ومنهم فاطمة الزهراء‘.

كما أنّ الزهراء÷ في خطبتها الفدكيّة القاصعة عرّفت نفسها فقالت: اعلموا أيها الناس إني فاطمة بنت محمّد’ .

وثانياً: إخراجها من دارها يد أبيه، ممّا يدلّ على عدم الفاصل بين النبي والزهراء‘ في مقام المعرفة والعرفان، فإنّه تارة خرجت معه ماشية من خلفه في حديث وقصة المباهلة في قوله تعالى: ﴿وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ﴾ ولم يكن مع الرسول إلّا الزهراء‘ وكانت من خلفه’، وهذا من مقام الإحتجاج والبرهان، فإنّها في طول حجّة أيها وبعلها، ولكن في المقام وفي تعريفها فإنها في عرض أبيها ويداً بيد، فمعرفتها بمنزلة معرفة واحدة وكل في عرض الآخر.

وثالثاً: قد عرّفها أولاً بالنّسب بأنّ الزّهراء منه وبنته، كما في تعريفها ببنته إشارة إلى أنّها من بيت النبوة والوحي والعصمة والرسالة والإمامة والولاية الكبرى.

ورابعاً: هناك من كان يعرفها حق المعرفة كأمير المؤمنين وولديه الحسن والحسين، فمن عرفها فقد عرفها بجلالها وكمالها، ومن لم يعرفها حسباً ونسباً وكمالاً وجمالاً، فإنّ النبيّ الأعظم أشرف خلق الله يعرّفها ومن هي فاطمة الزهراء‘، نهى فاطمة بنت محمد نسباً وحسباً ومقاماً وعظمة وشرافة وكرامة وسمّواً وعلواً ورفعةً.

وخامساً: أشار النبي الأعظم’ في مقام تعريفها بأنها هي في ذاتها وصفاتها وأفعالها ـ فإن ضير (هي) يدل على الذات والصفات والأفعال ـ فهي في حقيقتها وجوهرها بضعة وقطعة منه، لا تنفكّ عنه، فمن لوازم وجوده وماهيته كلازم الزوجيّة للأربعة، وإذا خلق الله محمد’ من نور عظمته قبل خلق وسماواته وأرضه، فإنّه خلقها أيضاً بأن تكون بضعة طاهرة ومطهرة من خاتم أنبيائه ويد رسله وأشرف خلقه، فهي والنبي الأعظم’ من نور واحد.

وسادساً: زاد في أوصافها الملكوتية وتعريفها المتفرّد، بأنّها هي هي قلبه النابض، وإذا كان قلب النبي ووجوده الأعظم هو قلب العالم وقطبه ومركز دائرته، فإن الزهراء‘ قلب القلب، نهى قلب النبي الأعظم، وكل ما يقال في جلاله وجماله وكمال قلب النبي بالدلالة المطابقيّة، فإنّه يقال للزهراء‘ أيضاً بالدلالة الإلتزاميّة، وكذلك العكس كما يقال ذلك في الثقلين كتاب الله والعترة الطاهرة، ويقال في أمير المؤمنين علي كفو فاطمة وفيها، فتدبّر.

وسابعاً: هي روح النبي أو روحي التي بين جنبيّ، وإذا عرج النبي بروحه وجسده إلى سدرة المنتهى ورأى من آيات الله الكبرى ما رأى، فإن الزهراء‘ كانت في معراجه روحاً، إذ هي روحه التي بين جنبيه ومن وراء ذلك أسرار وسرّ سرّه يذوق منه من كان من أهل السّر، ولا يلقُاها إلّا ذو حظ عظيم.

وثامناً: إذا كانت الزهراء‘ بهذا المقام العظيم وبهذه المنزلة الوحدويّة مع أبيها رسول الله محمد’، فإن مودتها وإطاعتها وولايتها من إطاعة الله ورسوله، كما أن معصيتها من معصية الله ورسوله، ولازم ذلك أنّ من سرّها فقد سرّ الله ورسول الله ومن آذاها وأغضبها، فقد اغضب وأذى رسول الله’، ومن أذى رسول الله فقد أذى الله عز وجل وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ . ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً﴾ .

فلعنة الله ورسوله والملائكة والناس أجمعين على من آذاها وأسخطها وأسقط جنينها وكسر ضلعها وغصب حقها وحقّ بعلها وماتت وهي عليهم واجدة، وسيعلم الذين ظلموا آل محمد أيّ منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الصفحة السابقة الصفحة التالية فهرس الكتب